09 - 11 - 2025

انتباه | درس ممداني

انتباه | درس ممداني

في خضم ضجيج الحرب، وانقسام الرأي، وسيل التحليلات المتعجلة، مرّ فوز ممداني في انتخابات نيويورك بين من رآه بشارةً لتحوّلٍ عالمي، ومن اعتبره حدثًا عابرًا لا يغيّر شيئًا في بنية القوة الأمريكية. غير أن ما يستحق التوقف هنا ليس النتيجة في ذاتها، بل ما كشفت عنه من صورةٍ أوسع: عن أمريكا التي تتبدّل من الداخل، وعنّا نحن الذين لا نزال نقرأها بالعين نفسها التي ورثناها عن زمنٍ مضى. 

فبين الانبهار والتشكيك، تضيع القراءة الهادئة التي ترى في الحدث جزءًا من سياقٍ أكبر، لا استثناءً خارقًا ولا مصادفةً عابرة.

أولًا: ليس فوز ممداني حدثًا عابرًا، بل مؤشرٌ على تحوّلٍ أعمق في المجتمع الأمريكي، وتبدّلٍ في موازين الخطاب السياسي والثقافي، حيث بدأت الأصوات القادمة من الهامش تُعيد تعريف المركز.

ثانيًا: إن التهوين من نتائج ما جرى في نيويورك، أو التضخيم في دلالتها، يعكس في الحقيقة طريقتنا المزمنة في النظر إلى الأمور: إما بعين الريبة الكاملة أو بعين الانبهار الكامل. لا نرى التحولات في سياقها، بل نحاكمها بمعاييرنا المسبقة. فحين يفوز ممداني، يندفع بعضنا إلى اعتباره “انتصارًا للجنوب في قلب الشمال”، فيما يسارع آخرون إلى وصفه بأنه مجرد “زخرف ديمقراطي” في نظامٍ لا يتغيّر.

والحقيقة أن كليهما يفقد البوصلة؛ لأن قراءة الأحداث بهذا التبسيط ـ سواء بالتهوين أو بالتضخيم ـ تحرمنا من رؤية ما يجري حقًا داخل المجتمع الأمريكي: إنه تحوّلٌ بطيء ومتعثّر، لكنه واقعي في اتجاه إعادة صياغة الصراع السياسي داخل أمريكا نفسها، حيث بدأت الدولة التي اعتادت مخاطبة العالم تُحاور ذاتها عن قضاياها الداخلية، وعن معنى العدالة والمواطنة في بيتها أولًا.

ذلك الانقسام، في جوهره، ليس حول ممداني ذاته، بل حول صورة أمريكا في وعينا الجمعي. فنحن ما زلنا نتعامل مع الولايات المتحدة ككتلةٍ واحدةٍ صمّاء، لا ككيانٍ تتنازعه التيارات والمصالح والرؤى. لم نستوعب بعد أن أمريكا اليوم ليست هي أمريكا الأمس، وأن داخلها صراعًا يتجاوز الحزبين إلى بنية المجتمع ذاته، حيث يواجه جيلٌ جديد إرث قرنٍ من الهيمنة والتمييز ضد الفقراء والأقليات.

ولا يمكن فصل ما جرى في نيويورك عمّا جرى في غزة. فمظاهرات الطلاب وحركات الجامعات في أمريكا أعادت كشف التناقض الأخلاقي في الخطاب الغربي، ودفعت جيلًا جديدًا إلى مراجعة موقعه من العدالة والحرية. في هذا المناخ، بدا فوز ممداني امتدادًا لذلك الوعي المتحرك، لا حدثًا معزولًا عن سياقٍ عالميٍ يتغيّر من القاعدة إلى القمة.

إنها لحظةٌ أمريكية تعكس أزمةً داخلية عميقة، لكنها في وعينا تتحوّل إلى مادةٍ للمزايدة الأيديولوجية أو الرومانسية السياسية. لقد أصبحنا نقرأ المشهد الأمريكي كأننا نقرأ مشهدنا نحن، نُسقط عليه همومنا ومخاوفنا وآمالنا، بدل أن نفككه بعينٍ ناقدةٍ ترى في تحوّلاته فرصةً لفهم العالم كما هو، لا كما نريده أن يكون.

المفارقة أن وعينا العربي ما زال ينظر إلى العالم بعين التابع: يهوّل أو يهوّن، يندهش أو ينكر، لكنه نادرًا ما يفهم. ما جرى في نيويورك يذكّرنا بأن التاريخ يتحرك من الهامش أيضًا، وأن التحولات الكبرى تبدأ حين نكفّ عن انتظار إشارات المركز، ونبدأ في قراءة العالم بعيونٍ مستقلة ترى فيه موقعنا نحن، لا صورته هو.

ما جرى في نيويورك لا يهمنا لأن الفائز مسلم أو مهاجر أو شاب، بل لأن الحدث نفسه يكشف طبيعة المجتمع الذي سمح له أن يكون ممكنًا.

هناك، استطاعت الإرادة الشعبية أن تتغلب على المال، وأن تهزم نفوذ السلطة، وأن تمنح الثقة لشاب الرابعة والثلاثين من عمره لأنها رأت فيه ما تستحق أن تراهن عليه.

القيمة التي تعنينا ليست في اسمه ولا هويته، بل في المناخ الذي جعله مرشحًا طبيعيًا لا استثناءً غريبًا.

أما نحن، فمشكلتنا ليست في غياب الكفاءات أو العقول أو الشباب، بل في غياب البيئة التي تتيح لهم أن يقتربوا أصلًا من ساحة القرار.

ومن هنا، فالعبرة ليست في هوية الفائز هناك، بل في الطريقة التي فاز بها، وفي المجتمع الذي آمن بأن صوته أقوى من السلطة وأكبر من المال.

هناك: الرئيس يعارض المرشح علنًا، ومع ذلك يفوز المرشحهنا: رضا الرئيس شرط للترشح أصلًا.

هناك: المال والإعلام يقفان ضده، ومع ذلك يصعدهنا: المال والإعلام يصنعان المرشح قبل أن يُولد اسمه في الوعي العام.

هناك: العمر الصغير يُرى كرمز لتجديد السياسةهنا: الشباب يُستبعدون بحجة “قلة الخبرة” ويُستبدل بهم المطيع “ذو الخبرة”.

هناك: الشارع يُغيّر المعادلةهنا: المعادلة تُرسم في الغرف المغلقة ويُطلب من الشارع التصفيق لها.

هناك: المنصب نتيجة منافسةهنا: المنصب نتيجة ثقة من فوق لا تفويض من تحت.

هناك: الانتخابات اختبار للثقة الشعبية. هنا: الانتخابات استعراض للولاء المؤسسي.

هناك: القانون يحكم الجميعهنا: القانون يُفسَّر بحسب موقعك من السلطة.

هناك: الدولة تتسع لخصومها لأنها واثقة من نفسهاهنا: الدولة تضيق حتى بحلفائها لأنها تخشى الجميع.

هناك: المجتمع يفرز قياداته من قلبه الحي. هنا: السلطة تنتقي ممثليها من قلب مؤسساتها المغلقة.

ما يستحق التأمل في فوز ممداني ليس في ديانته أو مواقفه، بل في الرسالة التي أرسلها المجتمع الأمريكي إلى نفسه: أن الديمقراطية لا تزال ممكنة حين يصبح الناس هم مصدر الشرعية، وأن التغيير لا يولد من فوق، بل حين يقرر الناس أن إرادتهم لا تُشترى ولا تُؤمَّم.

أما نحن، فما زلنا نعيش في ظل معادلة معكوسة: السلطة هي التي تمنح الثقة، والناس مجرد جمهور يُستدعى للتصفيق.

الدرس هناك بسيط حد الألم: حين تكون الكلمة للناس، تُولد السياسة من جديد؛ وحين تُصادر الكلمة، تتحول السياسة إلى طقسٍ بلا روح.

ذلك هو الدرس الذي لا نريد أن نتعلمه.
-------------------------
بقلم: محمد حماد

انتباه

مقالات اخرى للكاتب

انتباه | درس ممداني